فصل: رقم الآية ‏(‏80‏)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 رقم الآية ‏(‏67‏)‏

وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء اللّه المقتول ونصه على من قتله منهم‏.‏

ذكر بسط القصة

عن عبيدة السلماني، قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهى‏:‏ علام يقتل بعضكم بعضاً وهذا رسول اللّه فيكم‏؟‏ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ قال‏:‏ فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال‏:‏ واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا‏:‏ من قتلك‏؟‏ ‏"‏فقال‏؟‏‏؟‏‏]‏ هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيدة السلماني‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها بقرة لا فارض‏}‏ يعني لا هرمه، ‏{‏ولا بكر‏}‏ يعني ولا صغيرة، ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ أي نَصَفٌ بين البكر والهرمة‏.‏ ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها‏؟‏ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها‏}‏ أي صاف لونها، تسر الناظرين أي تعجب الناظرين، ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏؟‏ إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول‏}‏ أي لم يذللها العمل، ‏{‏تثير الأرض ولا تسقي الحرث‏}‏ يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث ‏{‏مسلَّمة‏}‏ يعني مسلَّمة من العيوب ‏{‏لا شية فيها‏}‏ يقول لا بياض فيها ‏{‏قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد اللّه عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا‏:‏ ‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏ لما هُدوا إليها أبداً‏.‏

وقال السُّدي ‏{‏وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏ قال‏:‏ كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال واللّه لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديّته، فأتاه الفتى - وقد قدم تجار ف‏؟‏‏؟‏ بعض أسباط بني إسرائيل - فقال‏:‏ يا عم انطلِق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمّه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم، وقال‏:‏ قتلتم عمي فأدّوا إليَّ ديَته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي‏:‏ واعمّاه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية‏.‏ فقالوا له‏:‏ يا رسول اللّه ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية، فواللّه إن ديته علينا لهيِّنة، ولكن نستحيي أن نعيَّر به فذلك حين يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون‏}‏، فقال لهم موسى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏، قالوا‏:‏ نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا‏؟‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}

قال ابن عباس‏:‏ فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنْ شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى فشدَّد الله عليهم‏.‏ والفارض الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلى ولداً واحداً، والعَوَان النْصَفُ التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها ‏{‏فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها‏}‏ قال نقي لونها ‏{‏تسرّ الناظرين‏}‏ قال تعجب الناظرين ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير في الارض ولا تسقي الحرث مسلَّمة لا شية فيها‏}‏ من بياض ولا سواد ولا حمرة ‏{‏قالوا الآن جئت بالحق‏}‏ فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهباً فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها فذبحوها، قال‏:‏ اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه من قتلك فقال لهم ابن أخي قال‏:‏ أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته، فأخذوا الغلام فقتلوه ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهذه الروايات عن ‏"‏عبيدة‏"‏و ‏"‏السدي‏"‏مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب‏"‏

 رقم الآية ‏(‏68 ‏:‏ 71‏)‏

قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ‏.‏ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ‏.‏ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ‏.‏ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ‏}‏

أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق اللّه عليهم ولو أنهم ذبحوا أيَّ بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم فقالوا ‏{‏ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏}‏ أي ما هذه البقرة‏؟‏ وأي شي صفتها‏؟‏ قال ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم‏"‏قال‏:‏ ‏{‏إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر‏}‏ أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل‏.‏ وقال الضحّاك عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ يقول نَصَفٌ بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏فاقع لونها‏}‏ صافية اللون‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فاقع لونها‏}‏ شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي‏:‏ ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ أي تعجب الناظرين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏ أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا ‏{‏وإنا إن شاء الله‏}‏ إذا بينتها لنا‏{‏لمهتدون‏}‏ إليها عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لولا أن بني إسرائيل قالوا ‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏ لما أعطوا ولكن استثنوا‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الحافظ ابن مردويه بنحوه‏"‏‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث‏}‏ أي إنها ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في السانية، بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلَّمة صحيحة لا عيب فيها ‏{‏لا شية فيها‏}‏ أي ليس فيها لون غير لونها وقال قتادة ‏{‏مسلَّمة‏}‏ يقول‏:‏ لا عيب فيها ‏{‏لا شية فيها‏}‏ لونها واحد بهيم قاله عطاء ‏{‏قالوا الآن جئت بالحق‏}‏ قال قتادة‏:‏ الآن بينت لنا، ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ كادوا أن لا يفعلوا - ولم يكن ذلك الذي أرادوا - لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والإضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع اللّه على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة‏.‏

 رقم الآية ‏(‏72 ‏:‏ 73‏)‏

وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ‏.‏ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ‏}‏

قال البخاري‏:‏ ‏{‏فادارأتم فيها‏}‏ اختلفتم وهكذا قال مجاهد، ‏{‏والله مخرج ما كنتم تكتمون‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ما تغيبون‏.‏ عن المسيب بن رافع‏:‏ ‏(‏ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها اللّه وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها اللّه‏)‏ وتصديق ذلك في كلام اللّه‏:‏ ‏{‏واللّه مخرج ما كنتم تكتمون‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن المسيب بن رافع‏"‏‏{‏فقلنا اضربوه ببعضها‏}‏ هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيَّنه اللّه تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه اللّه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يحيي اللّه الموتى‏}‏ أي فضربوه فحييَ، ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد، واللّه تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم من بعد موتكم‏}‏ وهذ القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبّه تعالى بإحياء الارض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو رزين العقيلي رضي اللّه عنه، قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه‏:‏ كيف يحيي اللّه الموتى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضراً‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏كذلك النشور‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏كذلك يحيي اللّه الموتى‏)‏ ‏"‏رواه الطيالسي عن أبي رزين العقيلي رضي اللّه عنه‏"‏وشاهد هذا قوله تعالى ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون‏}‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏74‏)‏

ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ‏}‏

يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى وإحيائه الموتى‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك‏}‏ كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، ولهذا نهى اللّه المؤمنين عن مثل حالهم، فقال‏:‏ ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون‏}‏ فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة، بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشدَّ قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقَّق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية اللّه وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من شيء إلا يسبِّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا‏}‏ والمعنى‏:‏ وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تُدْعون إليه من الحق‏.‏

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله‏:‏ ‏{‏يريد أن ينقض‏}‏ قال الرازي والقرطبي‏:‏ ولا حاجة إلى هذا، فإن اللّه تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابين أن يحملنها وأشفقن منها‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏تسبّح له السموات السبع والأرض ومن فيهن‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏هذا جبل يحبنا ونحبه‏)‏، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن‏(‏، وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه‏.‏

تنبيه اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم أوههنا بمعنى الواو تقديره‏:‏ فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ وكما قال جرير بن عطية‏:‏

نال الخلافة أو كانت له قدراً * كما أتى ربَّه موسى على قَدَرَ

قال ابن جرير‏:‏ يعني نال الخلافة وكانت له قدراً، وقال آخرون‏:‏ أوههنا بمعنى بل فتقديره‏:‏ فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله‏:‏ ‏{‏إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية‏}‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ ‏{‏فكان قاب قوسين أو أدنى‏}‏، وقال آخرون‏:‏ معنى ذلك‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ عندكم حكاه ابن جرير‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين‏:‏ إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة، قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة، وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره، قلت وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‏}‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏، مع قوله ‏{‏أو كظلمات في بحر لجِّي‏}‏ الآية أي‏:‏ إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا، واللّه أعلم‏.‏ عن ابن عمر‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإن كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة القلب، وإنَّ أبعد الناس من اللّه القلب القاسي‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه والترمذي في كتاب الزهد، وقال الترمذي‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم‏"‏وروي مرفوعاً‏:‏ ‏(‏أربع من الشقاء‏:‏ جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل والحرص على الدنيا‏)‏ ‏"‏رواه البزار عن أنَس بن مالك مرفوعاً‏"‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏75 ‏:‏ 77‏)‏

أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ‏.‏ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ‏.‏ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فتطمعون‏}‏ يا أيها المؤمنون ‏{‏أن يؤمنوا لكم‏}‏ أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه‏}‏ أي يتأولونه على غير تأويله ‏{‏من بعد ما عقلوه‏}‏ أي فهموه على الجليّة، ومع هذا يخالفونه على بصيرة ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله‏.‏ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسة يحرفون الكفم عن مواضعه‏}‏ وليس كلهم قد سمعها، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها، قال السدي‏:‏ هي التوراة حرّفوها‏.‏ وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون‏}‏ هم اليهود كانوا يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه، وقال أبو العالية‏:‏ عمدوا إلى ما أنزل اللّه في كتابهم من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، وقال السدي‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أي أنهم أذنبوا، وقال ابن وهب في قوله ‏{‏يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه‏}‏ قال‏:‏ التوراة التي أنزلها اللّه عليهم، يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراماً، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‏}‏، قال ابن عباس ‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‏}‏ أي قالوا‏:‏ إنَّ صاحبكم رسول اللّه ولكنه إليكم خاصة‏.‏ ‏{‏وإذا خلا بعضهم إلى بعض‏}‏ قالوا‏:‏ لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، ‏{‏وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم‏}‏ أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به‏.‏ يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أولا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏‏؟‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا آمنا، وقال السدي‏:‏ هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا‏.‏ وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون، ليعلموا خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر اللّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون‏:‏ أليس قد قال اللّه لكم كذا وكذا، فيقولون‏:‏ بلى‏.‏

قال أبو العالية ‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم‏}‏ كانوا يقولون سيكون نبيّ فخلا بعضهم ببعض فقالوا‏:‏ ‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ وعن مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم‏}قال‏:‏ قام النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال‏:‏ يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمداً‏؟‏ ما خرج هذا القول إلا منكم ‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ بما حكم اللّه للفتح ليكون لهم حجة عليكم‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم‏:‏ لا تحدِّثوا أصحاب محمد بما فتح اللّه عليكم، مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرو وما يعلنون‏}‏ يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏إن اللّه يعلم ما يسرون‏}‏ كان ما اسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم بما فتح اللّه عليهم مما في كتابهم، خشية أن يحاجّهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم ‏{‏وما يعلنون‏}‏ يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم آمنا‏.‏

 رقم الآية ‏(‏78 ‏:‏ 79‏)‏

ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ‏.‏ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم أميون‏}‏ أي ومن أهل الكتاب، والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، وهو ظاهر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعلمون الكتاب‏}‏ أي لا يدرون ما فيه، ولهذا في صفات النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون‏}‏، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا‏)‏ الحديث‏.‏ وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أماني‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا أماني‏}‏ يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً، وقال مجاهد إلا كذباً، وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏}‏ قال‏:‏ أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب اللّه ويقولون هو من الكتاب أماني يتمنونها، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان رضي اللّه عنه ‏(‏ما تغنيت ولا تمنيت‏)‏ يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب، وقيل‏:‏ المراد بقوله ‏{‏إلا أماني‏}‏ بالتشديد والتخفيف أيضاً أي إلا تلاوة‏.‏ واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته‏}‏ الآية، وقال كعب بن مالك الشاعر‏:‏

تمنَّى كتاب اللّه أول ليله * وآخره لاقى حِمَام المقادر

{‏وإن هم إلا يظنون‏}‏ يكذبون، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً‏}‏ الآية‏.‏ هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على اللّه، وأكل أموال الناس بالباطل، والويلُ‏:‏ الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة‏.‏ وعن ابن عباس الويل‏:‏ المشقة من العذاب، وقال الخليل الويلُ‏:‏ شدة الشر، وقال سيبويه‏:‏ ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي‏:‏ الويل تفجع، والويح ترحم، وقال غيره‏:‏ الويل الحزن‏.‏ وعن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ ‏{‏فويل للذي يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ قال‏:‏ هم أحبار اليهود، وقال السُّدي‏:‏ كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند اللّه ليأخذوا به ثمناً قليلاً، وقال الزهري عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابُ اللّه الذي أنزله على نبيّه أحدث أخبار اللّه تقرأونه غضاً لم يشب، وقد حدَّثكم اللّه تعالى أن أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاَ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا واللّه ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون‏}‏ أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والإفتراء، وويلٌ لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ‏{‏فويل لهم‏}‏ يقول‏:‏ فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب ‏{‏وويل لهم مما يكسبون‏}‏ يقول‏:‏ مما يأكلون به أولئك الناس السفلة وغيرهم‏.‏

 رقم الآية ‏(‏80‏)

وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسّهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فردَّ اللّه عليهم ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتخذتم عند اللّه عهداً‏}‏ أي بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل أي بل تقولون على اللّه ما لا تعلمون من الكذب والإفتراء عليه‏.‏ قال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ إن اليهود كانوا يقولون‏:‏ إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذّب بكل ألف سنةٍ يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خالدون‏}‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة وهي مدة عبادتهم العجل، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل، وقال عكرمة‏:‏ خاصمت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون، يعنون محمداً صلى اللّه عليه وسلم واصحابه، فقال‏:‏ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده على رؤوسهم‏:‏ ‏"‏بل أنتم خالدون ومخلدون لا يخلفكم فيها أحد‏"‏، فأنزل اللّه عز وجلّ‏:‏ ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة‏}‏ الآية‏.‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما فتحت خيبر أهديت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاة فيها سمُّ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏اجمعو لي من كان من اليهود هنا‏"‏فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أبوكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ فُلان، قال‏:‏ ‏(‏كذبتم بل أبوكم فلان‏)‏ فقالوا‏:‏ صدقت وبررت، ثم قال لهم‏:‏ ‏(‏هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أهل النار‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اخسئوا واللّه لا نخلفكم فيها أبداً‏)‏ ثم قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم، قال‏:‏ ‏(‏هل جعلتم في هذه الشاة سماً‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فما حملكم على ذلك‏؟‏‏)‏، فقالوا‏:‏ أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك ‏"‏رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏81 ‏:‏82‏)‏

بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة ‏{‏وأحاطت به خطيئته‏}‏ وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهذا من أهل النار‏.‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي آمنوا باللّه ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة، فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيهٌ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعملْ سوءاً يُجز به ولا يجدْ له من دون اللّه ولياً ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏بلى من كسب سيئة‏}‏ أي عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال‏:‏ الشركُ‏.‏ وقال الحسن‏:‏ السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال عطاء والحسن‏:‏ ‏{‏وأحااطت به خطيئته‏}‏ أحاط به شركه، وقال الأعمش‏:‏ ‏{‏وأحاطت به خطيئته‏}‏ الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب‏.‏ وعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إيَّاكم ومحقراتِ الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجُل حتى يهلكنه‏(‏ وإن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً وأجَّجوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها ‏"‏رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه مرفوعاً‏"‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيه خالدون‏}‏ أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له‏.‏

 رقم الآية ‏(‏83‏)‏

وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ‏}‏

يذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت‏}‏، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق اللّه تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير‏}‏ وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‏}وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت‏:‏ يا رسول اللّه أيُّ العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة على وقتها‏)‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال ‏(‏بر الوالدين‏)‏ قلت‏:‏ ثم أيُّ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد في سبيل اللّه‏)‏‏.‏ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه مَن أبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أمك‏)‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أمك‏)‏، قال ثم من‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أباك‏؟‏ ثم أدناك ثم أدناك‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعبدون إلا اللّه‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ خبر بمعنى الطلب وهو آكد‏.‏ وقيل‏:‏ كان أصله ‏{‏أن لا تعبدوا إلا اللّه‏}‏ فحذفت أن فارتفع ‏{‏واليتامى‏}‏ وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، و‏{‏المساكين‏}‏ الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏ أي كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال اللّه، وهو كل خلق حسن رضيه اللّه‏.‏

كما روي عن أبي ذر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تحقرَّن من المعروف شيئاً وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق ‏"‏أخرجه أحمد عن أبي ذر رضي اللّه عنه ورواه مسلم والترمذي‏"‏‏)‏ يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي و القولي ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد، بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر اللّه هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله‏:‏ ‏{‏واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين‏}‏ الآية‏.‏

 رقم الآية ‏(‏84 ‏:‏ 86‏)‏

وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ‏.‏ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ‏.‏ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود، الذين كانوا في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا في الجاهلية عبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل بنو قينقاع و بنو النضير حلفاء الخزرج و بنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتبهون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏؟‏‏}‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم‏}‏ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏)‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أقررتم وأنتم تشهدون‏}‏ أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به، ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم‏}‏ الآية‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ قال‏:‏ أنبأهم اللّه بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة، ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذاً به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم،

يقول اللّه تعالى ذكره‏:‏ ‏{‏أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏}‏ أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك باللّه ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا‏؟‏ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم‏}‏ والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذمَّ اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود - عليهم لعائن اللّه - يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌّ في الحياة الدنيا‏}‏ أي بسبب مخالفتهم شرع اللّه وأمره ‏{‏ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب‏}‏ جزاء على مخالفتهم كتاب اللّه الذي بأيديهم ‏{‏وما اللّه بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ أي استحبوها على الآخرة واختاروها ‏{‏فلا يخفف عنهم العذاب‏}‏ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه

 رقم الآية ‏(‏87‏)‏

ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ‏}‏

ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد، والمخالفة والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة فحرَّفوها وبدَّلوها، وخالفوا أوامرها أولوها، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيه هدى ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏}‏ الآية، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قفينا من بعده بالرسل‏}‏ قال السدي‏:‏ أتبعنا وقال غيره‏:‏ أردفنا، والكل قريب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أرسلنا رسلنا تترى‏}‏ حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى بن مريم، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه اللّه من البينات وهي المعجزات، قال ابن عباس‏:‏ من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن اللّه، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس - وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض كما قال تعالى إخباراً عن عيسى‏:‏ ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم‏}‏ الآية فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقاً يكذبونه، وفريقاً يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون‏}‏‏؟‏

والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري‏:‏ عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اللهم أيد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيك‏)‏ وفي بعض الروايات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لحسّان‏:‏ ‏(‏أهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك‏)‏ وفي شعر حسّان قوله‏:‏

وجبريل رسول اللّه فينا * وروح القدس ليس به خفاء

وعن ابن مسعود‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب ‏"‏رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود‏"‏‏)‏ وحكى القرطبي عن مجاهد القدُس‏:‏ هو اللّه تعالى، وروحه جبريل وقال السدي‏:‏ القدس البركة، وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ القدس الطهر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏بروح القدس‏}‏ بالروح المقدسة، كما تقول‏:‏ حاتم الجود، ورجل صدق، ووصفها بالقدس كما قال ‏{‏وروح منه‏}‏ فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة، وقيل‏:‏ لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث، وقيل‏:‏ بجبريل، وقيل‏:‏ بالإنجيل كما قال في القرآن ‏{‏روحاً من أمرنا‏}‏ وقيل‏:‏ باسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره‏.‏ وقال أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ففريقا كذبتم وفريقاً تقتلون‏}‏ إنما لم يقل وفريقاً قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال عليه السلام في مرض موته‏:‏ ‏(‏ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان انقطاع أبهري‏)‏ ‏"‏الحديث في صحيح البخاري وغيره‏"‏

 رقم الآية ‏(‏88‏)‏

وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ‏}‏

{‏وقالوا قلوبنا غلف‏}‏ أي في أكنة‏:‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي لا تفقه، وهي القلوب المطبوع عليها، وقال مجاهد‏:‏ عليها غشاوة، وقال السدي‏:‏ عليها غلاف وهو الغطاء فلا تعي ولا تفقه‏.‏‏{‏بل لعنهم اللّه بكفرهم‏}‏ أي طردهم اللّه وأبعدهم من كل خير ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ معناه‏:‏ لا يؤمن منهم إلا القليل، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏غلف‏}‏ تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي عن حذيفة قال‏:‏ ‏(‏القلوب أربعة‏)‏ فذكر منها‏:‏ ‏(‏وقلبُ أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان‏"‏‏)‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏وقد اختلفوا في معنى قوله ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ فقليل من يؤمن منهم، وقيل‏:‏ فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال بعضهم‏:‏ إنما كانوا غير مؤمنين بشيء وإنما قال‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ وهم بالجميع كافرون كما تقول العرب‏:‏ قلَّما رأيت مثل هذا قط نريد ما رأيت مثل هذا قط، واللّه أعلم‏.‏

 رقم الآية ‏(‏89‏)‏

ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم‏}‏ يعني اليهود ‏{‏كتاب من عند الله‏}‏ وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏مصدق لما معهم‏}‏ يعني التوراة، وقوله‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا‏}‏ أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث اللّه رسوله من قريش كفروا به‏.‏ قال الضحاك عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا‏}‏ قال يستنصرون‏:‏ يقولون نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون‏.‏ وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس‏:‏ إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه‏.‏ فقال لهم معاذ بن جبل‏:‏ يا معشر يهود اتقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنا مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلاّم بن مشكم أخو بني النضير‏:‏ ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل اللّه في ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم‏}‏ الآية‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا‏}‏ يقول‏:‏ يستنصرون بخروج محمد صلى اللّه عليه وسلم على مشركي العرب، يعني بذلك أهل الكتاب، فلما بُعث محمد صلى اللّه عليه وسلم - ورأوه من غيرهم - كفروا به وحسدوه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فلعنة اللّه على الكافرين‏}‏ هم اليهود‏.‏

 رقم الآية ‏(‏90‏)‏

بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ‏}‏

قال السدي‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ باعوا به أنفسهم، يقول‏:‏ بئسما اتعاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم عن تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغيُ والحسدُ والكراهية ل ‏{‏أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده‏}‏ ولا حسد أعظم من هذا‏.‏ ومعنى باؤا استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب اللّه عليهم بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن‏.‏ قال السدي‏:‏ أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللكافرين عذاب مهين‏}‏ لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‏}‏ أي صاغرين حقيرين ذليلين‏.‏ وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً‏"‏

 رقم الآية ‏(‏91 ‏:‏ 92‏)‏

وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ‏.‏ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ‏}‏

يقول تعالى ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ‏{‏آمنوا بما أنزل الله‏}‏ على محمد صلى اللّه عليه وسلم وصدقوه واتبعوه، ‏{‏قالوا نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك ‏{‏ويكفرون بما وراءه‏}‏ يعني بما بعده، ‏{‏وهو الحق مصدقا لما معهم‏}‏ أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏الحق مصدقاً لما معهم‏}‏ من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين‏}‏‏؟‏ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم، والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم‏؟‏ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل اللّه فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وقريقا تقتلون‏}‏‏.‏ ‏{‏وقال ابن جرير‏:‏ قال يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم‏:‏ آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا، لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل اللّه - أنبياء اللّه يا معشر اليهود، وقد حرم اللّه في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من اللّه تكذيب لهم في قولهم‏{‏نؤمن بما أنزل علينا‏}‏ وتعيير لهم‏.‏ ‏{‏ولقد جاءكم موسى بالبينات‏}‏ أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول اللّه وأنه لا إله إلا اللّه، والآيات والبينات هي‏:‏ الطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن، والسلوى، والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ‏{‏ثم اتخذتم العجل‏}‏ أي معبوداً من دون اللّه في زمان موسى وأيامه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة اللّه عز وجلّ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار‏}‏، ‏{‏وأنتم ظالمون‏}‏ أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا اللّه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولما سقط في ايديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين‏}‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏93‏)‏

وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ‏}

يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه‏:‏ ‏{‏ولهذا قالوا سمعنا وعصينا‏}‏ وقد تقدم تفسير ذلك انظر ص 73‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم‏}‏ عن قتادة قال‏:‏ أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم‏.‏ وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏حبك الشيْ يعمي ويصم‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه‏"‏وعن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطىء نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفرّ وجهه مثل الذهب ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن عليّ كرّم اللّه وجهه‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات اللّه، ومخالفتكم الأنبياء، ثم كفركم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمرو عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات اللّه، وعبادتكم العجل من دون اللّه‏.‏‏؟‏

 رقم الآية ‏(‏94 ‏:‏ 96‏)‏

قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ‏.‏ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ‏.‏ لتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون ‏}‏

يقول اللّه تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين‏}‏ أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمني‏}‏ أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات‏.‏ وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏ فسلوا الموت قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لو تمنى يهود الموت لماتوا ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس‏"‏وقال ابن جرر‏:‏ وبلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً‏)‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين‏}‏ فهم - عليهم لعائن اللّه تعالى - لمّا زعموا أنهم أبناء اللّه وأحباؤه وقالوا‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون، لانهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم‏.‏ وهذا كما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين‏}‏ فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض‏:‏ واللّه لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

والمعنى إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء اللّه من دون الناس وأنكم أبناء اللّه وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة، لما يعلمون من كذبهم وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة‏.‏ وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك اللّه المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة‏}‏ أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وعاقبتهم عند اللّه الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام، وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏ولتجدنهم أحرص الناس على حياة‏}‏ المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة ‏{‏يود أحدهم‏}‏ أي يود أحد اليهود لو يعمر ألف سنة ‏{‏وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر‏}‏ أي وما هو بمنجيه من العذاب، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏ أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عامل بعمله‏.‏

 رقم الآية ‏(‏97 ‏:‏98‏)‏

قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ‏.‏ من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ‏}‏

قال أبو جعفر الطبري رحمه اللّه‏:‏ أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم، وأن ميكائيل وليٌّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم‏:‏ إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر نبوّته‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ أقبلت يهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذا قال‏:‏ ‏{‏واللّه على ما نقول وكيل‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏هاتوا‏)‏، قالوا‏:‏ فأخبرنا عن علامة النبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تنام عيناه ولا ينام قلبه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكَّر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت‏)‏، قالوا‏:‏ أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا‏)‏، قال أحمد، قال بعضهم‏:‏ يعني الإبل‏.‏ فحرم لحومها‏.‏ قالوا‏:‏ صدقت‏.‏ قالوا‏:‏ أخبرنا ما هذا الرعد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ملك من ملائكة اللّه عزّ وجلّ موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره اللّه تعالى‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما هذا الصوت الذي نسمع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏صوته‏)‏، قالوا‏:‏ صدقت‏.‏ قالوا‏:‏ إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏جبريل عليه السلام‏)‏، قالوا‏:‏ جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوُّنا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل من كان عدو لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏}‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏إلى آخر الآية‏.‏ وفي رواية‏:‏ إن يهود سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال‏:‏ ‏(‏جبريل‏)‏ قالوا‏:‏ فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت‏:‏ ‏{‏قل من كان عدوا لجبريل‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج البخاري عن أنَس بن مالك قال‏:‏ سمع عبد اللّه بن سلاّم بمقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي‏:‏ ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً‏)‏ قال‏:‏ جبريل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك‏}‏‏.‏‏(‏وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت‏)‏، قال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، يا رسول اللّه إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أي رجل عبد اللّه ابن سلام فيكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال‏:‏ ‏(‏أرأتيم إن أسلم‏)‏ قالوا‏:‏ أعاذه اللّه من ذلك فخرج عبد اللّه فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فقالوا‏:‏ هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال‏:‏ هذا الذي كنت أخاف يا رسول اللّه‏)‏ ‏"‏رواه البخاري وأخرجه مسلم قريباً من هذا السياق‏"‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل كان سبب ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال عمر‏:‏ كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن من القرآن كيف يصدِّق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا‏:‏ يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت‏:‏ ولم ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت‏:‏ إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدِّق التوراة، ومن التوراة كيف تصدِّق القرآن، قالوا‏:‏ ومرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به، قال‏:‏ فقلت لهم عند ذلك‏:‏ نشدتكم باللّه الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم‏:‏ إنه قد غلَّظ عليكم فأجيبوه، قالوا‏:‏ فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال‏:‏ أما إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول اللّه، قلت‏:‏ ويحكم إذاً هلكتم، قالوا‏:‏ إنا لم نهلك، قلت‏:‏ كيف ذلك وأنت تعلمون أنه رسول اللّه ولا تتبعونه ولا تصدقونه‏!‏‏!‏ قالوا‏:‏ إن لنا عدوّاً من الملائكة، وسلْماً من الملائكة، وإنه قرن بنبّوته عدوّنا من الملائكة، قلت‏:‏ ومن عدوّكم ومن سِلمكم‏؟‏ قالوا‏:‏ عدوّنا جبريل، وسِلمنا ميكائيل، قالوا‏:‏ إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشدد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة، والتخفيف ونحو هذا، قال، قلت‏:‏ وما منزلتهما من ربهما عزّ وجلّ‏؟‏ قالوا‏:‏ أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال، فقلت‏:‏ فوالذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لعدوّ لمن عاداهما وسِلْمٌ لمن سالمهما، وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل، قال‏:‏ ثم قمت فاتبعت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال‏:‏ ‏(‏يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل‏)‏ فقرأ علي‏:‏ ‏{‏من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏}‏ حتى قرأ الآيات‏.‏ قال، قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر‏)‏ ‏"‏ذكره ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي‏"‏

وقال ابن جرير‏:‏ انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به، فقال لهم عمر‏:‏ أما واللّه ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا‏:‏ من صاحب صاحبكم‏؟‏ فقال لهم‏:‏ جبرائيل فقالوا‏:‏ ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرِّنا وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة المراد بالسنة‏:‏ القحط والجدب ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر‏:‏ هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى اللّه عليه وسلم، ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى اللّه عليه وسلم ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏}‏ الآيات‏.‏

وقال ابن جرير عن أبن أبي ليلى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان عدوا لجبريل‏}‏ قال‏:‏ قالت اليهود للمسلمين‏:‏ لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا، قال‏:‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وأما تفسير الآية فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله‏}‏ أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من اللّه بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل اللّه ملكيَّ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الغيمان بجميع الرسل، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ للّه لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال‏:‏ ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين* نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين‏}‏‏.‏

وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب‏)‏ ولهذا غضب اللّه لجبرائيل على ما عاداه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن اللّه مصدقاً لما بين يديه‏}‏ أي من الكتب المتقدمة ‏{‏وهدى وبشرى للمؤمنين‏}‏ أي هدى لقلوبهم، وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين‏}‏ يقول تعالى‏:‏ من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر - كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس‏}‏، ‏{‏وجبريل وميكال‏}‏ وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خُصّصا بالذكر لأن السياق في الإنتصار لجبرائيل، وهو السفير بين اللّه وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم اللّه تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر، وعادى اللّه أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء بعض الأحيان كما قرن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر‏.‏ هذا بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد اللّه وعبد الرحمن، وقيل جبر‏:‏ عبد، وإيل‏:‏ اللّه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله عدو للكافرين‏}‏ فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال‏:‏ ‏{‏فإن اللّه عدو للكافرين‏}‏ كما قال الشاعر‏:‏

لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ * سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا

وإنما أظهر اللّه هذا الإسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً للّه فقد عادى اللّه، ومن عادى اللّه فإن اللّه عدو له، ومن كان اللّه عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث‏:‏ ‏(‏من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة‏)‏ الرواية تقدمت بلفظ فقد بارزني بالحرب وذكر ابن كثير أنه رواية البخاري رضي الله عنه وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من كنت خصمه خصمته‏)‏‏.‏